عبد الله الجيزاني
في خضمّ الجدل السياسي والاجتماعي الذي تشهده الساحة العراقية، يستمر الجدل حول حدود الحوار مع الأطراف المختلفة، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالتواصل مع أنظمة أو جهات كان لها دور سلبي في الماضي. أحد أبرز الأمثلة هو النقاش المحتدم حول العلاقة مع الحكومة السورية، حيث تنقسم المواقف بين من يرى في الحوار نوعًا من التنازل أو الاعتراف، ومن يدعو إلى الواقعية السياسية ويعتبر التواصل ضرورة استراتيجية.لكن في زحمة المواقف والانفعالات، يضيع أحيانًا المفهوم الحقيقي للحوار. فهل يعني الجلوس مع الخصم إقرارًا بمواقفه؟ وهل يعني التواصل مع المختلف مصادقةً على أفكاره وسلوكياته؟الجواب ببساطة: لا.الحوار ليس مرادفًا للإذعان، ولا هو غطاء للقبول، بل هو وسيلة للتواصل والتأثير ونقل الرسائل. إنه أداة من أدوات السياسة، والدبلوماسية، والدعوة، وحتى الإصلاح. وقد استخدمه الأنبياء والمصلحون عبر التاريخ، ليس لتبرير الأخطاء، بل لتقويم المسار وتخفيف الضرر، وربما فتح أبواب التغيير.في السيرة النبوية، نجد أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاور مشركي قريش، واستقبل وفد نصارى نجران، وتحدث مع اليهود في المدينة، دون أن يكون ذلك إقرارًا منهم أو قبولًا بما كانوا عليه من معتقدات ومواقف. بل كان الحوار في كثير من الأحيان وسيلة لتبليغ الحق، أو لدرء فتنة، أو لفتح نافذة تفاهم.في الحالة العراقية، فإن التواصل مع الحكومة السورية لا يعني، بحال من الأحوال، تجاوز دماء الضحايا أو تبرئة المتسببين بالإرهاب، بل هو محاولة لفهم الواقع الإقليمي كما هو، لا كما نتمناه. فالسياسة لا تُدار بالعواطف، بل بالمصالح وحسابات القوة. والعراق اليوم لا يملك ترف القطيعة، في ظل تحديات أمنية واقتصادية تحيط به من كل الجهات، وحدود مشتركة مع دول مضطربة.من هذا المنظور، لا ينبغي أن يُحمّل الحوار أكثر مما يحتمل، ولا أن يُفهم باعتباره إعلان ولاء أو موقفًا مبدئيًا. إنه ببساطة خيار واقعي، يسعى لحماية البلد من مزيد من التدهور، وإيجاد قنوات اتصال قد تُفضي إلى تهدئة أو تفاهم، أو حتى وقف أذى.في النهاية، الحوار ليس إقرارًا، بل هو أداة من أدوات التأثير والتصحيح والبناء. رفض الحوار خوفًا من التهمة أو خشية من الشبهة هو في ذاته إخلال بواجبات المسؤولية. وإذا كان التاريخ يعلمنا شيئًا، فهو أن القطيعة لا تصنع سلامًا، وأن الصراخ لا يبني سياسة، وأن من يرفض الحوار قد يضطر لاحقًا إلى دفع ثمن مضاعف.